هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل
بوحي ربه تبارك وتعالى، فأخبره بمؤامرة قريش، وأن اللَّه قد أذن له في
الخروج وحدد له وقت الهجرة قائلاً لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت
تبيت عليه.
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه
ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي اللَّه عنها بينما نحن جلوس في بيت
أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم متقنعاً، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي،
واللَّه ما جاء في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر اخرج من عندك. فقال أبو بكر إنما هم
أهلك، بأبي أنت يا رسول اللَّه. قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو
بكر الصحبة بأبي أنت يا رسول اللَّه؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
نعم.
وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بيته ينتظر مجيء الليل.
تطويق منزل الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي
أبرمها برلمان مكة دار الندوة صباحاً، واختير لذلك أحد عشر رئيساً من هؤلاء
الأكابر وهم:
1. أبو جهل بن هشام.
2. الحكم بن أبي العاص.
3. عقبة بن أبي معيط.
4. النضر بن الحارث.
5. أمية بن خلف.
6. زمعة بن الأسود.
7. طعيمة بن عدي.
8. أبو لهب.
9. أبي بن خلف.
10.نبيه بن الحجاج.
11. منبه بن الحجاج.
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام، فيثبون عليه.
وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل
وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطباً لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء إن
محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم
من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم
ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل، فباتوا متيقظين ينتظرون
ساعة الصفر، ولكن اللَّه غالب على أمره، بيده ملكوت السماوات والأرض، يفعل
ما يشاء، وهو يجير ولا يجار عليه، فقد فعل ما خاطب به الرسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم فيما بعد: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته:
ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم قد فشلوا فشلاً فاحشاً. ففي هذه الساعة
الحرجة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب نم على
فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء
تكرهه منهم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا
نام.
ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من
البطحاء فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخذ اللَّه أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو
يتلو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] فلم يبق منهم رجل
إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار
أبي بكر ليلاً حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن.
وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة
والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟
قالوا محمداً. قال: خبتم وخسرتم، قد واللَّه مر بكم، وذر على رؤوسكم
التراب، وانطلق لحاجته، قالوا واللَّه ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن
رؤوسهم.
ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا علياً، فقالوا واللَّه إن هذا لمحمد
نائماً، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام علي عن الفراش، فسقط
في أيديهم، وسألوه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: لا علم لي
به.
من الدار إلى الغار:
غادر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من
النبوة الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه - وأمن الناس
عليه في صحبته وماله - أبي بكر رضي اللَّه عنه. ثم غادرا منزل الأخير من
باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشاً ستجدّ في طلبه، وأن
الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه
شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماماً، وهو الطريق الواقع جنوب مكة،
والمتجه نحو اليمن سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف
بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة، فحفيت
قدما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقيل: بل كان يمشي في الطريق على
أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين
بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل عرف في
التاريخ بغار ثور.
إذْ هما في الغار:
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر واللَّه لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن
كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها
به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم ادخل فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ووضع رأسه في حجره ونام،
فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،
فقال: ما لك يا أبا بكر؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم ، فذهب ما بجسده.
وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد
اللَّه بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من
عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُكادانِ به إلا
وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. و(كان) يرعى عليهما عامر بن
فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء،
فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة
بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. وكان عامر ابن فهيرة
يتبع بغنمه أثر عبد اللَّه بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفى عليه.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوه أنهم ضربوا علياً وسحبوه إلى
الكعبة وحبسوه ساعة، علّهم يظفرون بخبرهما.
ولما لم يحصلوا من علي على جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر، وقرعوا بابه، فخرجت
إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها أين أبوك؟ قالت: لا أدري واللَّه أين
أبي؟ فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فلطم خدها لطمة طرح منها
قرطها.
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها
القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات) تحت
المراقبة المسلحة الشديدة. كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل
كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيّين أو ميتين، كائناً من كان.
وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة.
وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن اللَّه غالب على أمره، روى البخاري
عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت
رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت يا نبي اللَّه لو أن بعضهم طأطأ بصره
رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان، اللَّه ثالثهما، وفي لفظ ما ظنك يا أبا
بكر باثنين اللَّه ثالثهما.
وقد كانت معجزة أكرم اللَّه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
في الطريق إلى المدينة:
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد
استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى تهيأ رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة.
وكانا قد استأجرا عبد اللَّه بن أريقط الليثي، وكان هادياً خريتاً - ماهراً
بالطريق - وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما،
وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين - غرة
ربيع الأول سنة 1/16 سبتمبر سنة 622م - جاءهما عبد اللَّه بن أريقط
بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت يا رسول
اللَّه خذ إحدى راحلتي هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم بالثمن.
وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها
عصاماً، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها
باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت ذات النطاقين. ثم ارتحل
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي اللَّه عنه وارتحل معهما عامر
بن فهيرة وأخذ بهم الدليل - عبد اللَّه بن أريقط - على طريق السواحل.
وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن،
ثم اتجه غرباً نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه
شمالاً على مقربة من شاطىء البحر الأحمر وسلك طريقاً لم يكن يسلكه أحد إلا
نادراً.
وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في
هذا الطريق. قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على
الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم
استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديداً، ثم أجاز بهما من
مكانه ذلك. فسلك بهما الخرار، ثم سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا،
ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاح، ثم سلك بهما مرجح
محاج، ثم تبطن بهما مرجح ذي الغضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على
الجداجد ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم
على العبابيد، ثم أجاز بهما الفاجة، ثم هبط بهما العرج، ثم سلك بهما ثنية
العائر - عن يمين ركوبة - حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما على قباء.
وهاك بعض ما وقع في الطريق:
1. روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن
الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة
طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه
وسلم مكاناً بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت نم يا رسول اللَّه،
وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه
إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له لمن أنت يا غلام؟ فقال:
لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت أفتحلب؟ قال:
نعم. فأخذ شاة، فقلت انفض الضرع من التراب والشعر والقذى فحلب في كعب كثبة
من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم ، يرتوي منها، يشرب
ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين
استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت اشرب يا رسول
اللَّه، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت بلى، قال: فارتحلنا.
2. كان من دأب أبي بكر رضي اللَّه عنه أنه كان ردفاً للنبي صلى الله عليه
وسلم ، وكان شيخاً يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى
الرجل أبا بكر فيقول من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول هذا الرجل يهديني
الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير.
3. وتبعهما في الطريق سراقة بن مالك. قال سراقة بينما أنا جالس في مجلس من
مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا
سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه قال سراقة
فعرفت أنهم هم. فقلت له إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا
بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج
فرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت،
فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فعرفتها تقرب بي
حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي،
فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت
فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات - ساخت يدا فرسي في
الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج
يديها، فلما استوت قائمة إذ الأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان،
فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي
حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية،
وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد وال فلم يرزآني، ولم
يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن
فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
النزول بقباء:
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة - وهي السنة الأولى من
الهجرة - الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
بقباء.
قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر
الظهيرة. فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم
أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال
بأعلى صوته يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى
السلاح.
قال ابن القيم: وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون
فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به
مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي نزل عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ
ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
قال عروة بن الزبير فتلقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فعدل بهم ذات
اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع
الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صامتاً،
فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحيي -
وفي نسخة يجيء - أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم عند ذلك.
وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة
مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة بحقوق النبي إن اللَّه جاء من
التيمان، والقدوس من جبال فاران.
ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، قيل: بل
على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثاً حتى أدى
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر
ماشياً على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهدم.
وأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام الإثنين والثلاثاء
والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى
بعد النبوة، فلما كان يوم الخامس - يوم الجمعة - ركب بأمر اللَّه له، وأبو
بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار - أخواله - فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فسار
نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي
في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.
الدخول في المدينة:
وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة - ومن ذلك اليوم سميت
بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعبر عنها بالمدينة مختصراً -
وكان يوماً تاريخيّاً أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد
والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحاً وسروراً:
أشرق البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن
ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عنده. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار
إلا أخذوا خطام راحلته هلّم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول
لهم خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد
النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت
فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار - أخواله - صلى
الله عليه وسلم . وكان من توفيق اللَّه لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله
يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النزول
عليهم، بادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله، فأدخله ببيته، فجعل رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم يقول المرء مع رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام
راحلته، وكانت عنده.
وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم: أي بيوت
أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب أنا يا رسول اللَّه، هذه داري، وهذا بابي. قال:
فانطلق فهيء لنا مقيلاً، قال: قُومَاً على بركة اللَّه.
وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد،
وأم أيمن، وخرج معهم عبد اللَّه بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة،
وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر.
قالت عائشة لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر
وبلال، فدخلت عليهما فقلت يا أبه كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان
أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
امرىء مصبّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردنْ يوماً مياه مجنة وهل يَبْدُوَ لي شامة وطفيل
قالت عائشة فجئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته، فقال: اللهم
حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حباً، وصححها، وبارك في صاعها ومدها،
وانقل حماها فاجعلها بالجحفة.
إلى هنا انتهى قسم من حياته صلى الله عليه وسلم ، وتم دور من الدعوة الإسلامية، وهو الدور المكي.
الحيَاة في المدينة
يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلاث مراحل:
1.
مرحلة أثيرت فيها القلاقل والفتن، وأقيمت فيها العراقيل من الداخل وزحف
فيها الأعداء إلى المدينة لاستئصال خضرائها من الخارج. وهذه المرحلة تنتهي
إلى صلح الحديبية في ذي القعدة سنة 6 من الهجرة.
2. مرحلة الهدنة مع الزعامة الوثنية، وتنتهي بفتح مكة، في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، وهي مرحلة دعوة الملوك إلى الإسلام.
3.
مرحلة دخول الناس في دين اللَّه أفواجاً، وهي مرحلة توافد القبائل
والأقوام إلى المدينة، وهذه المرحلة تمتد إلى انتهاء حيارة الرسول صلى الله
عليه وسلم في ربيع الأول سنة 11 من الهجرة
بناء المسجد النبوي:
وأول خطوة خطاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد
النبوي. ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من
غلامين يتيمين كان يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، كان ينقل اللبن والحجارة
ويقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبرّ ربن ا وأطهر
وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول:
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذاك منا العمل المضلل
وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت،
وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس،
وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من
جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة
أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو
دونه، وكان أساسه قريباً من ثلاثة أذرع.
وبنى بيوتاً إلى جانبه، بيوت الحجر باللبن وسقفها بالجريد والجذوع، وهي
حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت
أبي أيوب.
ولم يكن المسجد موضعاً لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها
المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر
القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة
لإدارة جميع الشؤون وبث الانطلاقات، وبرلماناً لعقد المجالس الاستشارية
والتنفيذية.
وكان مع هذا كله داراً يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون.
وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، النغمة العلوية التي تدوي في الآفاق، كل يوم
خمس مرات، والتي ترتج لها أنحاء عالم الوجود. وقصة رؤيا عبد اللَّه بن زيد
بن عبد ربه بهذا الصدد معروفة، رواها الترمذي وأبو داود وأحمد وابن خزيمة.
المؤاخاة بين المسلمين:
وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتآلف. قام
بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو المؤاخاة بين المهاجرين الأنصار،
قال ابن القيم ثم آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين
الأنصار، في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين،
ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي
الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل اللَّه عز وجل: {وَأُوْلُوا
الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، الأنفال - رد
التوارث، دون عقد الأخوة.
وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية. والثبت الأول،
والمهاجرين كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد
مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار ا ه.
ومعنى هذا الإخاء كما قال محمد الغزالي أن تذوب عصبيات الجاهلية فلا حمية
إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر
إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً
فارغاً وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم
لها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.
فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن إني أكثر الأنصار
مالاً، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي،
أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك اللَّه لك في أهلك ومالك،
وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط
وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم مهيم؟ قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذنب
وروى عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا
وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة
قالوا سمعنا وأطعنا.
وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم
المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرون من
تقدير هذا الكرم حق قدره فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم
أودهم.
وحقاً فقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة صائبة حكيمة، وحلاً رائعاً
لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها.