غزوة أحد
استعداد قريش لمعركة ناقمة:
كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة
الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ
الثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من
الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم.
وعلى إثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي
غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة.
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد اللَّه بن ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحماساً لخوض المعركة.
وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو
سفيان والتي كانت سبباً لمعركة بدر. وقالوا للذين كانت فيها أموالهم يا
معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه،
لعلنا ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها. وكانت ألف بعير، والمال
خمسين ألف دينار وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].
ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش
وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعاً من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن
أمية أغرى أبا عزة الشاعر - الذي كان قد أسر في بدر فمن عليه رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بأن لا يقوم ضده
- أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن
الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره
التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر - مسافع بن عبد مناف
الجمحي لنفس المهمة.
وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعد ما رجع عن غزوة السويق خائباً
لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقداراً كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة.
وزاد الطينة بلة - أو زاد النار إذكاء - ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد
بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها. وزودها من الحزن
والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في
معركة تفصل بينهم وبين المسلمين.
قوام جيش قريش وقيادته:
ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين
ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش ورأس قادة قريش أن يستصحبوا
معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم
وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة.
وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا
فرس، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع.
وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن
الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل. أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار.
جيش مكة يتحرك:
تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت الثارات
القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال
مرير.
الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو:
وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما
تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ضمنها جميع تفاصيل الجيش.
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين
مكة والمدينة - التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلومتراً - في ثلاثة أيام،
وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء.
قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فأمره بالكتمان، وعاد
مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار.
استعداد المسلمين للطوارىء:
وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارىء.
وقامت مفرزة من الأنصار - فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة -
بحراسة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم
السلاح.
وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها خوفاً من أن يؤخذوا على غرة.
وقامت دوريات من المسلمين - لاكتشاف تحركات العدو -تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين.
الجيش المكي إلى أسوار المدينة:
وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى
الأبواء اقترحت هند بنت عتبة - زوج أبي سفيان - بنبش قبر أم رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم ، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من
العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب.
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العقيق، ثم انحرف
منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد في مكان يقال له عينين في بطن
السبخة من قناة على شفير الوادي - الذي يقع شمالي المدينة - فعسكر هناك يوم
الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة.
تكتيب الجيش الإسلامي وخروج إلى ساحة القتال:
ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد
والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح
الناس بذلك.
ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه
صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين أي لبس
درعاً فوق درع وتقلد السيف، ثم خرج على الناس.
وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير استكرهتم
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا
جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له يا رسول اللَّه ما كان لنا أن
نخالفك. فاصنع ما شئت. إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته - وهي الدرع - أن يضعها
حتى يحكم اللَّه بينه وبين عدوه.
وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب:
1. كتيبة المهاجرين وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري.
2. كتيبة الأوس من الأنصار. وأعطى لواءها أسيد بن حضير.
3. كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر.
وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وخمسون فارساً وقيل لم يكن
من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في
المدينة، وأذن بالرحيل فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي
صلى الله عليه وسلم يعدوان دارعين.
ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل
عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد
المشركين، فسأل هل أسلموا؟ فقالوا: لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل
الشرك.
استعراض الجيش:
وعندما وصل إلى مقام يقال له الشيخان استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره
مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد،
وأسيد بن ظهير وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم،
وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حبة ويذكر في هؤلاء
البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم.
وأجاز راع بن خديج، وسمرة بن جندب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان
ماهراً في رماية النبل فأجازه فقال سمرة أنا أقوى من رافع، أنا أصرعه،
فلما أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه،
فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً.
المبيت بين أحد والمدينة:
وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك،
وانتخب خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن
مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة
النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
تمرد عبد اللَّه بن أبي وأصحابه:
وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر، وكان بمقربة من
العدو. فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد اللَّه بن أبي المنافق،
فانسحب بنحو ثلث العسكر - ثلاثمائة مقاتل - قائلاً ما ندري علام نقتل
أنفسنا؟ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع
غيره.
ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى
هذا المكان معنى. بل لو كان هذا هو السبب لانعزل عن الجيش منذ بداية سيره،
بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد - في ذلك الظرف الدقيق - أن يحدث
البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم. حتى ينحاز
عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتنهار معنويات من يبقى معه،
بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى
القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو
لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه.
وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان - بني
حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج - أن تفشلا، ولكن اللَّه تولاهما
فثبتتا بعد ما سرى فيهما الاضطراب وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول
اللَّه تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
وحاول عبد اللَّه بن حرام - والد جابر بن عبد اللَّه - تذكير هؤلاء
المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على
الرجوع، ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل اللَّه أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم
أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد اللَّه بن حرام قائلاً أبعدكم اللَّه،
أعداء اللَّه، فسيغني اللَّه عنكم نبيه.
وفي هؤلاء المنافقين يقول اللَّه تعالى: {وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].
خطة الدفاع:
وهناك عبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال،
فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطى
قيادتها لعبد اللَّه بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم
بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة - وعرف فيما بعد
بجبل الرماة - جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين متراً
من مقر الجيش الإسلامي.
والهدف ن ذلك هو ما أبداه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كلماته التي
ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قاللقائدهم انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا
من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك. ثم قال
للرماة احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد
غنمنا فلا تشركونا وفي رواية البخاري أنه قال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير
فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأنهم،
فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين
أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية
التطويق.
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير
بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه
فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين
ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف.
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلى فيها عبقرية قيادة النبي صلى الله
عليه وسلم العسكرية - وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة
أدق وأحكم من هذا - فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه
بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره - حين
يحتدم القتال - بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي
واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به - إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين -
ولا يلتجىء إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين
وأسرهم. ويلحق مع ذلك خسائر فادحة إلى أعدائه إن أرادوا احتلال معسكره
وتقدموا إليه، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا
على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من
المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين. كما أنه عوض النقص العددي في
رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحاب الشجعان البازين.
وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة ه.
الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش:
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم،
وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند
اللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه - حتى جرد سيفاً باتراً
ونادى أصحابه من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه - منهم علي
بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب - حتى قام إليه أبو دجانة
سماك بن خرشة، فقال: وما حقه يا رسول اللَّه؟ قال: أن تضرب به وجوه العدو
حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه يا رسول اللَّه، فأعطاه إياه.
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا
اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت. فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك
العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم إنها لمشية يبغضها اللَّه إلا في مثل هذا الموطن.
أول وقود المعركة:
وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، وبدأت مراحل القتال، وكان أول وقود
المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري. وكان من أشجع فرسان
قريش. يسميه المسلمون كبش الكتيبة. خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى
المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته. ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله
بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه
عنه وذبحه بسيفه.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع، فكبر وكبر المسلمون،
وأثنى على الزبير، وقال في حقه إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير.
ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته:
ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط
الميدان. وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين. فقد تعاقب بنو عبد
الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة
عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول
إن على أهل اللواء حقاً
أن نخضب الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته.
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب
حنجرته، فأدلع لسانه ومات لحينه. وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز،
فتقدم إليه علي بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه عليه فقتله.
ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي
الأفلح بسهم فقتله. فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة فانقض
عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن
طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد اللَّه طعنة قضت على حياته. وقيل: بل
رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضى عليه.
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد اللَّه بن عثمان بن عبد
الدار، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن
شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شريح
بن قارظ فقتله قزمان - وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام -
ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً. ثم حمله
ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً.
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار - من حملة اللواء - أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق
منهم أحد يحمل اللواء. فتقدم غلام لهم حبشي - اسمه صواب - فحمل اللواء
وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين
قتلوا قبله فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا
يسقط حتى قتل وهو يقول اللهم أعزرت؟ يعني هل اعذرت.
وبعد أن قتل هذا الغلام - صواب - سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً.
مصرع أسد اللَّه حمزة بن عبد المطلب:
يقول قاتل حمزة وحشي بن حرب كنت غلاماً لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة ابن
عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير إنك إن قتلت حمزة
عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس - وكنت رجلاً حبشياً أقذف
بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئاً - فلما التقى الناس خرجت أنظر
حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هداً ما
يقوم له شيء. فواللَّه إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو
مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا
ابن مقطعة البظور - وكانت أمه ختانة - قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه.
قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثنته - أحشائه -
حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم
أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر، فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة،
وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة اعتقت.
السيطرة على الموقف:
وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد اللَّه وأسد رسوله
حمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ
أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن
عمير وطلحة بن عبيد اللَّه، وعبد اللَّه بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن
عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فل عزائم المشركين،
وفتت في أعضادهم.
من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة:
وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حنظلة الغسيل، وهو حنظلة بن أبي عامر،
وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق والذي مضى ذكره قريباً - كان
حنظلة حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب. وهو على امرأته انخلع من
أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة
القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب،
وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح اللَّه له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان فلما
استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله.
نصيب فصيلة الرماة في المعركة:
وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد
بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة
خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات ليحطموا جناح الجيش
الإسلامي الأيسر حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك
في صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل
حتى فشلت هجماتهم الثلاث.
الهزيمة تنزل بالمشركين:
هكذا دارت رحى الحرب الزبون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطراً على الموقف
كله، حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين
والشمال والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا
بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.
وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لصد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور،
وانكسرت همتها - حتى لم يجترىء أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد
مقتل صواب فيحمله ليدور حوله القتال - فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى
الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام،
وإعادة العز والمجد والوقار.
قال ابن إسحاق ثم أنزل اللَّه نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم
بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد اللَّه
بن الزبير عن أبيه أنه قال: واللَّه لقد رأيتني أنظر إلى خدم - سوق - هند
بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير.. الخ وفي
حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت
النساء يشتددن في الحبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن. وتبع المسلمون
المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم.
غلطة الرماة الفظيعة:
وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخرى نصراً ساحقاً على مكة لم
يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة
غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين،
وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تركت أسوأ أثر
على سمعتهم، والهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر.
لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال بالنصر أو
الهزيمة لكن على رغم هذه الأوامر المشددة، لما رأى هؤلاء الرماة أن
المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم
لبعض الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟
أما قائدهم عبد اللَّه بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟
ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت: واللَّه لنأتين
الناس فلنصيبين من الغنيمة. ثم غادر أربعون رجلاً من هؤلاء الرماة مواقعهم
من الجبل والتحقوا بسواد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم. وهكذا خلت ظهور
المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم
مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا.
خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي:
وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل
إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد اللَّه بن جبير وأصحابه،
ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون
بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم - وهي عمرة بنت
علقمة الحارثية - فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله
المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين وثبتوا
للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى.
موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق:
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من
أصحابه - في مؤخرة المسلمين، كان يراقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين
إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو -
بالسرعة - بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى
مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخد بهم
جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.
وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد
رفع صوته ينادي أصحابه: عباد اللَّه، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون
صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا
الظرف الدقيق.
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.
تبدد المسلمين في الموقف:
أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها
إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا
وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى
فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم
يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض، روى البخاري عن عائشة قالت:
لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس أي عباد اللَّه
أخراكم - أي احترزوا من ورائكم - فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر
حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد اللَّه أبي أبي. قالت:
فواللَّه ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة يغفر اللَّه لكم. قال: عروة
فواللَّه ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق باللَّه.
وهذه الطائفة حث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها
الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح إن
محمداً قد قتل. فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار
في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته
مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد اللَّه بن أبي - رأس المنافقين -
ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.
ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا
فموتوا على ما مات عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: اللهم
إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء
يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي يا أبا عمر؟ فقال أنس
واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما
عرف حتى عرفته أخته - بعد نهاية المعركة - ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين
طعنة برمح، وضربة بسيف ورمية بسهم.
ونادى ثابت بن الدحداح قومه فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل،
فإن اللَّه حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن اللَّه مظفركم وناصركم. فنهض
إليه نفرمن الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم حتى
قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه.
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان
أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا
عن دينكم.
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع
إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي
وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر
القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق، فزاد
ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز
منيع بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وعمل التطويق
في بدايته وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي
طالب وغيرهم رضي اللَّه عنهم، كانوا في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر
على ذاته الشريفة - عليه الصلاة والسلام - صاروا في مقدمة المدافعين.
احتدام القتال حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
وبينما كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، تطحن بين شقى رحى المشركين،
كان العراك محتدماً حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا أن
المشركين لما بدأوا عمل التطويق لم يكن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين هلم إلي، أنا رسول اللَّه، سمع صوته
المشركون وعرفوه فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه
أحد من جيش المسلمين فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة
عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد
في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله
الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم
رهقوه أيضاً فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم لصاحبيه - أي القرشيين - ما أنصفنا أصحابنا.
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط.
أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم :
وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرشيين فقط، ففي
الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك
الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد اللَّه وسعد بن أبي وقاص. وكانت
أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وفرصة ذهبية
بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا
حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن
أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمت شفته
السفلى وتقدم إليه عبد اللَّه بن شهاب الزهري، فشجه في جبهته. وجاء فارس
عنيد عبد اللَّه بن قمئة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر
من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه
وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته،
وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لي وهو
يمسح الدم عن وجهه أقمأك اللَّه.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وشج في رأسه، فجعل يسلت
الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم
إلى اللَّه، فأنزل اللَّه عز وجل:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ اشتد غضب اللَّه على قوم دموا وجه رسوله،
ثم مكث ساعة ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وكذا في صحيح مسلم
أنه كان يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه
قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون إلى القضاء على حياة رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد اللَّه قاما
ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا - وهما اثنان
فحسب - سبيلاً إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب
فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كنانته
وقال: ارم فداك أبي وأمي. ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يجمع أبويه لأحد غير سعد.
وأما طلحة بن عبيد اللَّه فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمع المشركين حول
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، قال جابر فأدرك
المشركون حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: من للقوم، فقال طلحة
أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد بنحو ما ذكرنا من
رواية مسلم فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة، قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال
الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسن، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: لو قلت بسم اللَّه لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، قال: ثم رد
اللَّه المشركين ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين
أو خمساً وثلاثين وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها.
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وفي بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد اللَّه.
وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة.
وقال فيه أبو بكر أيضاً:
يا طلحة بن عبيد اللَّه قد وجبت لك الجنان وبوأت المها العينا
وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل اللَّه نصره بالغيب، ففي
الصحيحين عن سعد، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه
رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.
وفي رواية يعني جبريل وميكائيل