إلى الرفيق الأعلى
طلائع التوديع:
لما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة
والأحياء تطلع من مشاعر صلى الله عليه وسلم ، وتتضح بعباراته وأفعاله.
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا
عشرة أيام فحسب. وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع إني لا
أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، وقال: وهو عند جمرة
العقبة خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة
النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه.
وفي أوائل صفر سنة 11ه خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على
الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم
وإني شهيد عليكم، وإني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح
خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني واللَّه ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني
أخاف عليكم أن تنافسوا فيها.
وخرج ليلة - في منتصفها - إلى البقيع فاستغفر لهم وقال: السلام عليكم يا
أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع
الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى - وبشرهم قائلاً إنا
بكم للاحقون.
بداية المرض:
وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11ه - وكان يوم الإثنين - شهد
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع. فلما رجع، وهو في الطريق
أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم يجدون سورتها فوق العصابة
التي تعصب بها رأسه.
وقد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 13، أو 14 يوماً.
الأسبوع الأخير:
وثقل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه أين أنا
غداً؟ أين أنا غداً؟ ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة
يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصباً رأسه تخط قدماه حتى دخل
بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته.
وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم ، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة.
قبل الوفاة بخمسة أيام:
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد
به الوجع وأغمي عليه، فقال: هريقوا على سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى
الناس، فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول
حسبكم، حسبكم.
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد- وهو معصوب الرأس - حتى جلس على المنبر، وخطب الناس - والناس مجتمعون حوله فقال:
لعنة اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وفي رواية:
قاتل اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وقال: لا
تتخذوا قبري وثناً يعبد.
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه.
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في
الشحناء وغيرها، فقال رجل إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: أعطه يا فضل، ثم
أوصى بالأنصار قائلاً
أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم،
فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. وفي رواية أنه قال: إن الناس
يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر
فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
ثم قال: إن عبداً خيره اللَّه أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما
عنده. فاختار ما عنده قال أبو سعيد الخدري فبكى أبو بكر. قال: فديناك
بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له، فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره اللَّه بين أن يؤتيه من زهرة
الدنيا. وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن من أأمن الناس علي في صحبته
وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً. ولكن
أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر.
قبل أربعة أيام:
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال - وقد اشتد به الوجع - هلموا أكتب
لكم كتاباً لن تضلوا بعده - وفي البيت رجال فيهم عمر - فقال عمر قد غلب
عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب اللَّه. فاختلف أهل البيت واختصموا،
فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومنهم من
يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم قوموا عني.
وأوصى ذلك اليوم بثلاث أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة
العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي.
ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي الصلاة
وما ملكت أيمانكم.
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع
صلواته حتى ذلك اليوم - يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام - وقد صلى
بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد، قالت عائشة
فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول اللَّه، وهم
ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي
عليه. ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ - ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة
الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء - فأرسل إلى أبي بكر أن
يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه
وسلم.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة
عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس، فأبى، وقال: إنكن صواحب يوسف. مروا أبا
بكر فليصل بالناس.
قبل يوم أو يومين:
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين
رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر،
فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي
بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويسمع
الناس التكبير.
قبل يوم:
وقبل يوم من الوفاة - يوم الأحد - أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه،
وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت
عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند
يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.
آخر يوم من الحياة:
روى أنس بن مالك أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر من يوم الإثنين - وأبو
بكر يصلي بهم - لم يفاجئهم إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كشف ستر
حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر
على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج
إلى الصلاة فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليهم بيده رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
ثم لم يأت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسارّها بشيء فبكت
ثم دعاها، فسارها بشيءٍ فضحكت، قالت عائشة فسألنا عن ذلك - أي فيما بعد
فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفى فيه،
فبكيت ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي
يتغشاه فقالت: واكرب أباه. فقال لها ليس على أبيك كرب بعد اليوم.
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وفد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول يا
عائشة، ما أزال أنجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاعٍ
أبهري من ذلك السم.
وأوصى الناس، فقال: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم كرر ذلك مراراً.
الرفيق الاعلى
شعر رسول الله صلى الله عليه و سلم بوعكة المرض الذى نزل به في أواخر شهر
صفر من السنة الحادية عشر للهجرة أو فى أول شهر ربيع الأول وكان مبدأ ذلك
أنه صلى الله عليه و سلم خرج إلي بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم ثم
رجع إلى أهله فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك
قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم
من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول وآرأساه فقال بل أنا
والله يا عائشة وآرأساه ولما ثقل عليه الوجع وهو فى بيت زوجه ميمونة رضي
الله عنها دعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة فأذن له فخرج من
عند ميمونة بين الفضل ابن العباس ولعلي بن أبى طالب عاصبا رأسه تخط قدماه
على الأرض حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها
واشتد المرض برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال "هريقوا علي سبع قرب من
آبار شتى حتى أخرج إلي الناس فأعهد إليهم, قالت عائشة فأقعدناه فى مخضب
(إناء يغتسل فيه) لحفصة بنت عمر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : حسبكم
حسبكم وعندما أحس رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الآلام قد خفت قليلاً
خرج عاصباً رأسه إلى المسجد حتى جلس علي المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه
صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم ثم قال إن عبداً من عباد
الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر
رضي الله عنه وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا يا رسول الله فتعجب
الناس من بكاء أبى بكر وكلامه ولم يعرفوا مغزاه إلا بعد ذلك
ثم أثنى الرسول علي أبى بكر فقال : إنى لا أعلم أحداً كان أفضل فى الصحبة
عندى يداً منه ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صحبة
وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده
ثم قال عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه ويقدم لهم النصائح الغالية ويرسم
لهم معالم الطريق وأسباب النجاة التي ينبغى أن يتمسكوا بها : أما بعد أيها
الناس. فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضاً
فهذا عرضي فليستقد منه.ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني ـ ألا
وإن أحبكم إلا من أخذ مني حقاً إن كان له أو أحلني منه فلقيت الله وأنا طيب
النفس وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مراراً
ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى في الشحناء
وغيرها فقام رجل فقال يا رسول الله: إن لى عندك ثلاثة دراهم
فقال : أعطه يا فضل بن العباس
ثم قال النبي: أيها الناس من كان عنده شئ فليؤده ولا يقل : فضوح الدنيا ألا وأن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة
فقام رجل فقال: يا رسول الله عندى ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله
قال : ولم غللتها؟
قال : كنت إليها محتاجا
قال : خذها منه يا فضل
ثم قال: أيها الناس من خشى من نفسه شيئا فليقم أدع له
فقام رجل فقال: يا رسول الله إنى لكذاب, إني لفاحش, إني لنؤوم
فقال النبي: اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا أراد
ثم قال رجل فقال : والله يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق وما من شئ إلا قد جنيته
فقام عمر بن الخطاب فقال له فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي صلى الله عليه
و سلم : يابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة : اللهم ارزقه صدقا
وإيمانا وصير أمره إلى خير
ثم أوصى بالأنصار خيرا فقال كما ذكر عبد الله بن كعب بن مالك : "يا معشر
المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً فإن الناس يزيدون وإن الأنصار علي هيئتها
لا تزيد وأنهم كانوا عيبتي (مكمن سره) التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم
وتجاوزوا عن مسيئهم ثم نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم من على المنبر
ودخل بيت عائشة
وفي يوم من أيام مرضه أوصى المسلمين أن يجيزوا وفد أسامة بن زيد وألا
يتركوا فى جزيرة العرب دينين وقال "أخرجوا منها المشركين" وزادت وطأة المرض
علي رسول الله حتى لقد تأذت فاطمة ابنته من شدة ما يلقى فقالت : واكرب
أبتاه
فقال : ليس علي أبيك كرب بعد اليوم
وأغمي عليه مرة فلده أهله فلما أفاق كره ذلك منهم وكان إلى جواره قدح فيه
ماء يغمس فيه يده ثم يمسح وجهه بالماء ويقول:اللهم أعنى على سكرة الموت
أبو بكر يصلى بالناس
قالت عائشة : لما استuز برسول الله صلى الله عليه و سلم قال مروا أبا بكر فليصل بالناس
فقالت عائشة : يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن
فقال : مروه فليصل بالناس
قالت : فعدت بمثل قولى
فقال الرسول : إنكن صواحب يوسف فمروه فليصل بالناس
قالت : فوالله ما أقول ذلك إلا أنى كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر وعرفت
أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا، وأن الناس سيتشاءمون به فى كل حدث
كان فكنت احب أن يصرف ذلك عن أبى بكر
وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة كما ذكر الوافدي ، وذكر عكرمة انه صلى
بهم ثلاثة أيام وهذه الأيام التي تخلف فيها النبي عن إمامة الصلاة كانت من
أشد الأيام ثقلاً عليه
اليوم الذى قبض فيه الرسول
وظل أبو بكر يصلى بالمسلمين حتى إذا كان يوم الاثنين الذى قبض الله فيه
رسوله خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عاصباً رأسه وهم يصلون الصبح فلما
رآه المسلمون أفسحوا له مكانا فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا
لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنكص عن مصلاه فدفع رسول الله ظهره وقال:
صل بالناس وجلس رسول الله إلى جنبه فصلى قاعدا عن يمين أبى بكر فلما فرغ من
الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من باب المسجد
يقول
أيها الناس ، سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإنى والله ما
تمسكون علي بشئ، إنى لم أحل إلا ما أحل القرآن ، ولم أحرم إلا ما حرم
القرآن فلما فرغ رسول الله من كلامه
قال له أبو بكر : يا نبي الله إنى أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب ، واليوم يوم بنت خارجة أفآتها ؟
قال : نعم
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم وخرج أبو بكر إلي أهله بالسخ (من
ضواحى المدينة) وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله قد أفاق من وجعه
وهكذا ظل الرسول صلى الله عليه و سلم حتى اللحظة الأخيرة من حياته حريصا
علي نصح أمته معلم القلب بشئونها موضحا لها طريق الاسلام ومعالمه محذرا لها
من كل إنحراف أو ضلال
قالت عائشة رضى الله عنها : وعاد رسول الله من المسجد فاضطجع في حجرى ودخل
علي رجل من آل أبي بكر وفى يده سواك أخضر فنظر رسول الله إليه فى يده نظرا
عرفت أنه يريده..فأخذته منه فمضخته حتى لينته ثم أعطيته إياه، فاستن به
كأشد ما رأيته يستن قط ثم وضعه، ووجدت رسول الله صلى الله عليه و سلم يثقل
في حجرى فذهبت أنظر إلى وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول : بل الرفيق الأعلى
من الجنة فقلت : خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق
وقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشر للهجرة على أرجح الأقوال
وهكذا فارق الرسول العظيم دنياه ولحق بمولاه بعد أن بلغ الرسالة، وأدى
الأمانة، وجاهد فى الله حق جهاده، وخلق من الشعب العربي شعباً جديداً كان
له أعظم الأثر فى تغير وجه التاريخ الإنسانى
وقد نزلت وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصحابة كالصاعقة،
فأصيبوا بذهول شديد هز كيانهم وحجب عنهم إدراك هذه الحقيقة القاسية. حقيقة
أن الحياة مهما طالت لابد لها من نهاية وأن العمر مهما امتد فلابد من الموت
وأن بني البشر مع هذه الحقيقة سواء قال تعالى لرسوله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}سورة الزمر - آية 30 ولنا أن نتصور مبلغ الأسى
واللوعة التى شملت المسلمين في هذا اليوم الحزين حتى أنهم لا يدرون ماذا
يفعلون، ومن ذلك ما صنعه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى هذا اليوم وهو
المعروف بقوته وشجاعته وثباته
فقد أنكر على من قال : مات رسول الله وخرج إلى المسجد وخطب الناس وقال "إن
رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد توفى وإن
رسول الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه
أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ووالله ليرجعن رسول الله كما
رجع موسى فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه و
سلم مات
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجل الساعة حقا فقد أقبل من منزله حين
بلغه الخبر حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شئ حتى
دخل على رسول الله في بيت عائشة وهو مسجى (مغطى ببرد) فكشف عن وجهه الكريم
فقبله ثم قال : بأبى أنت وأمى أما الموته التى كتب الله عليك فقد ذقتها ثم
لن يصيبك بعدها موت أبداً ورد البرد علي وجهه صلى الله عليه و سلم ثم خرج
وعمر ما زال يكلم الناس فقال : على رسلك يا عمر فأنصت لكن عمر ظل مهتاجا
مندفعا في كلامه فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فلما سمع الناس
كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من
كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت
ثم تلا هذه الآية : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن
يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}سورة ال العمران - آية 144
يقول من شهد هذا الموقف: والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى
تلاها أبو بكر يومئذ وأخذها الناس عن أبى بكر فإنما هى في أفواههم ويقول
عمر عن نفسه حينئذ : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (تحيرت
ودهشت) حتى وقعت إلى الأرض وما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم قد مات
وهكذا عاد المسلمون إلى رشدهم وسلوا بقضاء الله الذى لا مرد له، واستطاع
الرجال الكبار الذين رباهم الرسول صلى الله عليه و سلم ليتحملوا الأمانة من
بعده أن يواجهوا الموقف بثبات وحكمة فبايعوا أبا بكر الصديق رضى الله عنه
بالخلافة، وأقاموا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه و سلم ودفنه واختلفوا في
موضع دفنه أيدفن في مسجده ؟ أم في بيته ؟ فقال لهم أبو بكر الصديق إنى
سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض فرفع
فراشه الذي قبض عليه وحفر تحته ودخل الناس أفواجا للصلاة عليه الرجال ثم
النساء ثم الصبيان لا يؤم أحد أحداً
وبذلك بدأت حقبة جديدة في تاريخ الدولة الإسلامية هي ما نسميها بعصر
"الخلفاء الراشدين" وقد استطاع هؤلاء الخلفاء الراشدون أن يحملوا الأمانة
بعد نبيهم وأن يواصلوا الجهاد ضد أعداء الإسلام وأن يفتحوا أرض الله
الواسعة لينشروا بين جنباتها كلمة التوحيد والهداية ولسوف يبقى دين الإسلام
بمشيئة الله تعالي ما بقيت السموات والأرض ولسوف تستمر تعاليم رسول الله
صلى الله عليه و سلم التى قضى حياته فى سبيل نشرها و الدعوة إليها إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بنبينا وأن
يجعله شفيعاً لنا يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
وصلى الله على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون